الحقوق والحريات السياسية تواجه اليوم جدالاً كبيراً في المجتمعات الحالية على الصعيد العملي والنظري ، و أيضاً من وجهة نظر العلماء المسلمين فان هناك وجهات نظر مختلفة اختلافاً حقيقياً ، يمكن استخلاصها من خلال المصادر الأصلية للفكر الديني في هذا المجال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقوق والحرية السياسية في القرآن والسنة
الخلاصة
الحقوق والحريات السياسية تواجه اليوم جدالاً كبيراً في المجتمعات الحالية على الصعيد العملي والنظري ، و أيضاً من وجهة نظر العلماء المسلمين فان هناك وجهات نظر مختلفة اختلافاً حقيقياً ، يمكن استخلاصها من خلال المصادر الأصلية للفكر الديني في هذا المجال . ويظهر ان القرآن والسنة النبويّة والعلويّة عليهما السلام قسَّما الحريّة الى قسمين (الحرية في الحكومة) و (الحرية من الحكومة) . القسم الأول يتضمّن حق انتخاب الحكّام والمشاركة في اتـّخاذ القرارات اللازمة ؛ أما القسم الثاني وهو حق الاشراف والمراقبة ، حق النصيحة ، حق الاعتراض(الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) وحق الانتفاضة والثورة ؛ يمكن اثباته من خلال الآيات القرآنية والسنّة النبويّة .ورغم ذلك كلّه فان هناك حدود خاصّة للإستفادة من هذه الحقوق ، أهمّها رعاية الحرية الشخصيّة والمصالح الاجتماعيّة للآخرين.
المقدمة
الحق والحرية ، مفهومان قد شَغَلا بال المُجتمعات البشريّة منذ عهدٍ قديم. في الحقيقة ان التعيين الدقيق للحقوق والحريات السياسية والمدنيّة وصدور البيانات والضمانات الحقوقيـّة حديث الولادة، ولم يمضِ عليه وقت طويل ،ولم يكن مطروقاً من قبل؛ لذا فان البحث في الحريات من هذه الجهة يُعتبر نوع جديد و ابداعي نوعاً ما.
على هذا فإن بعضهم لا يعتبر لفظة (الحرية) بمفهومها السياسي والاجتماعي بعنوان مصطلح معروف في القاموس السياسي.(احمد الصدر الحاج سيد جوادي، بهاء الدين الخرمشاهي ، كامران فاني ، 1366، ص53) ,وكذلك لم تُذكر هذه اللفظة في دائرة المعارف الاسلامية الكبرى على أساس انها أحد الألفاظ الاسلامية (سيد كاظم البجنوردي ،1372).
ومن الجدير ذكره أنّ صِنـف الفلاسفة السياسيين ظهَرَتْ لهم مباحثَ كثيرة وموسّعة حول (الحق) ، أمثال سقراط وافلاطون . سقراط كان يعتقد ان القوانين الطبيعيّة هي منشأ الحقوق الطبيعيّة للإنسان ، ويطلب من المسئولين المتصدّين ان يكتشفوا هذه القوانين ، ويستفيدوا منها في إدارة الدولة ، وكيفيّة التعامل مع الناس من خلالها (شعبان قسم زاده، 1334،ص2).
رأي سقراط والذين خلفوه هو ان الحكّـام والسلاطين يضعون القوانين حسب ما تقتضيه مصالحهم وما تُمليه عليه مآربهم ، وان الحقوق الطبيعيّة للناس موجودة وعلى رأسها الحقوق الفطريّة للإنسان (ابو الفضل القاضي ، ج1 ، ص626).
سيسْرون في كتابه المعروف (الجمهوريّة)، يقول انّ وظائف الدولة هو وضع القوانين وفقاً للقوانين الطبيعيّة للإنسان ، وقام بمزج الحقوق الطبيعيّة لليونان مع الحقوق المدنيّة واستَخْلَصَ من خلالها ثلاثة أنواع من الحقوق (الحقوق المدنيّة، حقوق الناس ، الحقوق الطبيعيّة ) (سيد جلال الدين المدني ،1369، الجزء السابع، ص4). و طـَرْحُ هذه المباحث في طيّات الكتب التي ألّفَها الفلاسفة حول الحقوق الطبيعيّة والحريات الإنسانية لم تصل إلى حدٍّ بحيث تُجعل علىشكل مؤسسةٍ أو منظّمةٍ مشخّصة في الخارج .
ورويداً رويداً صارت هذه المكتوبات والمدوَّنات حول الحقوق الطبيعيّة للانسان وبفضل مجاهدة الناس في سبيل الوصول الىحقوقهم الانسانية ، صارت بالنسبة للحكام مدوّنة وواجبة التنفيذ .
مفهوم (الحرية) استُعمل في الثقافة الاسلامية بأنّه الاختيار و الإرادة مقابل العبوديّة، الإكراه . وقبل أن تظهر وتُعَرّف الحريّة السياسيّة فان الحريّة الحقوقيّة ، الفلسفيّة والعرفانيّة كانت معروفة .
وقد ظهرت في مؤلفات المفكّرين المسلمين مباحث كثيرة أمثال التأكيد على صفاة الحاكم ووجوب العدالة مِنْ قِبـَلـِهِ . ولكن لم تظهر بعض المطالب المهمّة في كتابات المفكّرين في القرون الماضية مثل حق المشاركة السياسية للناس وحق انتخابهم للمطالب السياسية والفرديّة ، ولكن يمكننا تصوّر الرؤية الاسلاميّة في هذا الصعيد من خلال الاستفادة من المصادر الاسلامية الغنيّة(الكتاب والسنّة) .
في زمان المشروطة(اي زمان النظام الدستوري للبلاد) وما بعده قام المفكرّون والعلماء أمثال آية الله النائيني (ره) وبالاعتماد على الكتاب والسنّة بكتابة رسائل وكتب متعدّدة حول حقوق الناس .
و ان مؤسّسي الحكومة الدستوريّة (المشروطة) في ذلك الزمان ناقشوا بعض النظريّات المطروحة آنذاك ، بحيث صار أحد موارد الإختلاف بين النائيني والنوري هو هذه المسألة (علي أصغر الحلبي،1371، ص302).
وكان للسيد جمال الدين الاسدآبادي سهمٌ لا يخفى في طرح ونشر أفكار طُلاّب الحريّة ، وكان قليلاً ما يُشير الى الحقوق والحريّات العامّة وفق المباني الدينيّة ، ولكنّه أشار بشكل عام أو بخطوط عريضة الى الحريات الاجتماعيّة- السياسية.
وكتب الى أحد اصدقائه المسمى(الحاج مشتاق المراغي) رسالة ، شرح له فيها بالعَرْضِ والتّحليل أوضاع إيران وارتباط هذه الأوضاع في فرنسا: ((ماهو سبب التفاوت بين ايران وفرنسا (التي دخلها يفوق ايران بـ 200 مرّة؟ ليس إلاّ ان في فرنسا العدل،المساوات، الاخوّة ،الحريّة والقانون موجود ، أما في ايران فلا وجود للقانون أليس كذلك ؟(النائيني،1378، ص49).
وقد انتقل النائيني (ره) في الكتابة حول تشييد صرح المباني الدينيّة لحقوق الناس وحرّياتهم ، وعلى هذا الصعيد استَلْهَمَ تلك المعاني من القرآن الكريم و سيرة النبي الأكرم صلى ا لله عليه وآله وسلم .وقد عَزا النمو السريع للأفكار الاسلاميّة في النصف الأول من القرن الأول الى (العدالة والشورى للحكومة الاسلاميّة والحريّة والمساوات بين أفراد المسلمين ونفس اشخاص الخلفاء وحاشيتهم في الحقوق والأحكام)(سيد هادي الخسرو شاهي، 1353، ص49).
وكتب الأستاذ الشهيد المطهري أيضاً في كُتُبِهِ ، مشيراً الى جذور واسباب مَيْل الغربيين الى الماديّة ، تحت عنوان عدم نُضوج المفاهيم الاجتماعيّة السياسيّة قال (السبب الثالث للميل نَحو الغرب ، عدم نضوج بعض المفاهيم الاجتماعيّة- السياسيّة. نحن نقرأ في تاريخ الفلسفة السياسيّة ، ان في ذلك الوقت طُرحت مفاهيم اجتماعيّة وسياسيّة في الغرب ، فجاءت في الأثناء مسألة الحقوق الطبيعيّة، وبالخصوص حق الشعب في الحكم ، وبَرَزَ هناك مَنْ يُساند الاستبداد السياسي في سلبِ حق الناس في الوقوف بوجه الحكام ، والحق الوحيد للناس هو اطاعة الأوامر المُلقات عليهم من الحكّام فقط . وقد وجَدَ أولئك القائلين بهذه النظريّة حجّةً ودليلاً يبرّر عملهم هذا ، فالتَصَقوا بالله سبحانه قائلين للناس ان الحكّام غير مسئولين أمام الناس ، بل أنهم مسئولون امام الله فقط ؛ ولكنّ الناس عليهم مسؤوليات تجاه الحكام، فلا يمكنهم توبيخ أو طلب الإيضاح حول ما يفعله الحكام ،فيقولوا لهم لماذا فعلتم كذا؟ أو تعيين الوظيفة لهم بالقول اعملوا كذا ولا تعملوا كذا. فقط الله سبحانه له الحق في تعيين الوظيفة للحكام ، وليس هناك حق للناس في ذلك؛ وللحكام حقوق يجب على الناس ان يؤدّوها تجاههم(مرتضى المطهري، 1375، ش1 ،ص553 – 554).
ويضيف الشهيد المطهري في معرض نقدِهِ لهذه الظاهرة ((من وجهة نظر الاسلام ان المفاهيم الاسلاميّة دائماً مُساوية للحريّة، بالضبط عكس ما يجري في الغرب (طبقاً لِما نقلَه الدكتور الصناعي) ، والذي كانوا يقولون فيه ان المفاهيم الدينيّة متساوية مع الاختناق الاجتماعي (مرتضى المطهري ،1375،ص555).
مباني الحقوق والحريّة السياسية في القرآن
كما أشرنا سابقاً ، فإن الناس قد استَنَدوا الى مصادر متعددة في تعيين عاقبتهم والإستفادة من الحريات . وسنركّز هنا على المباني القرآنية .
1 .الناس كلهم متساوون في الإنسانية (الآدميّة):
ويشتركون فيها ، وقد وَضّح الإسلام هذه المساوات بأحسن صورها ، حيث عبّر عن كل الناس بأنهم متساوون من حيث الخلق، والتمايز بينهم انما يكون في الأمور الإكتسابية مثل الخدمات التي يقدمها الفرد للمجتمع في قبال الله سبحانه وقبال نفسه، ونقرأ في سورة الحُجُرات >يا أيها الناس انّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم<(الحجرات:13) . وجاء في رواية عن رسول الله 2 (يا أيها الناس ألا وان ربّكم واحد وان أباكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى ) (السيوطي ، 1414 ، ج7 ص 571) .
ففي الآية الكريمة ان الأم والأب واحد ، وهذا دليل على التساوي في الخِلْقَة ، واختلاف القبائل والشعوب لم يكن وسيلة لتفضيل بعضكم على بعض ، بل هو وسيلة للتّعارف والتمييز فيما بينكم ، أما التفاوت والتفاضل فهو على أساس التقوى .
وهناك آية أخرى تشير بصورة عامة الىكرامة الإنسان ، وتُفصح بأن كل الناس متساوون من حيث هذه الجهة : >ولقد كرّمنا بني آدم و حملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً<(الإسراء :70) وليس هناك تفاوت في تقدير قيمة الأعمال للناس من عند الله سبحانه >فاستجاب لهم ربّهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض<(آل عمران: 195) ، ونقرأ في آية أخرى>مَنْ عمل صالحاً مِنْ ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلَنُحيينّه حياةً طيّبة<(النحل:9) وهناك آية شبيهة للآية السابقة تقول >و مَنْ عَمِل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنّة يُرزقون فيها بغير حساب<(غافر:40) ، فهذه الآيات تُشير الى التفاوت في الآثار الوضعيّة والجزاء الاُخرَوي لا يكون إلاّ على أساس الإيمان والعمل الصالح ، وأن الناس خُلقوا متساوون من هذه الناحية .
والضمير المفرد في الآيتين السابقتين يُشير الى ان الإنسانية حقيقة واحدة متساوية ، اما مانراه أحياناً مِنْ تفاوت ليس تفاوتاً في الإنسانية وليس له دخل في التصنيف الواقعي للإنسان ، بعبارة اخرى ؛ الناس كلّهم يقعون تحت عنوان(انسان) سواء كان رجلاً أو إمراة ، وذلك حسب نظرة الكتاب السماوي .
2. التساوي في الكرامة و القِـيـَم الانسانية :
النظرة الدينية للإنسان تختلف عن النظرة الماديـّة له . فالإنسان حسب نظر الاسلام ليس ذلك الموجود المتكون من لحم ودم وعظم و... فينمو الى أن يموت فيتحول الى تراب ؛ وقد قام أحد العلماء بتفكيك العناصر التي يحتويها بدن الإنسان فوجدها كالآتي (دهون ، فسفور، كاربون، أملاح، حديد، ماء، كبريت، و...) ثم وَزَنَها وثَمـّن قَدَرَها فوجد انّها تعادل 50 أو60 قرش مصري . (ياسر أبو شبـّانه ، 1985، ص509).
ولكن من وجهة نظر الاسلام فان الانسان موجودٌ عزيز ومكرّم حيث أظهر تلك الكرامة له مِن جهات متعدّدة وقد خلق الله سبحانه الانسان بيديه >قال يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقتُ بيديَّ ، أستكبرت أم كُنْتَ من العالين<(ص:75) وجاء في آية أخرى >لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم<(التين:4) وكذلك آية>وصوّركم فأحسن صوركم ورَزَقَكم من الطيّبات <(غافر:64) ، وبعد أن خُلق الإنسان بهذه الصورة الخاصّة الصالحة نفخ فيه من روحه فصار بهذه الصورة المنتظمة المنسجمة . >واذاسَويّته ونفَخْت فيه من روحي<(الحجر:29)وهذه الخصوصية من الامتيازات القيّمة للإنسان في الاسلام ، وغير موجودة عند الماديين .
ولم يكتف سبحانه بذلك بل جعله خليفته في الأرض>واذ قال ربّك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة<(البقرة:30) وأعطينا الانسان العقل والارادة>انّا خلقنا الانسان من نُطْفَةٍ أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ، انّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإما كفوراً< (الانسان:2، 3). وسخّر له العالـَم >ألم تَرَو أن الله سخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبَغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطنة< (لقمان:20) .
هذه الكرامة والاعتبار العالي غير مُختَصّ ببعضٍ دون بعض بل كل الناس مشتركين في الإنتفاع والاستفادة من تلك الخدمات .
3 . نفي عبوديّة غير الله
أحد مباني الحريات السياسية في المجتمع هو نفي العبادة لغير الله سبحانه. وعلى هذا الصعيد لا يمكن لأحد ان يكون معبوداً للناس ، فيُحـَمـِّل الناس عقائده وما يؤمن به، ويسوق الناس نحو اعتقاداته.
وقد أشار أمير المؤمنين D الى هذه النقطة قائلاً «ولا تكن عبد غيرك فقد جعلك الله حرّاً» (نهج البلاغة : الرسالة 31) وقد استند الميرزا النائيني على هذا المبنى فكتب: ((حرية القلم والبيان ونحوهما ... من مراتب الحريّة الممنوحة من الله سبحانه ، وفي حقيقتها عبارةً عن ترك قيود الطاغوت ، وفي النتيجة قصده عدم الممانعة من تنبّه الأمّة وإفهامِها .)) (محمد حسين النائيني ، 1378، ص 44) وهناك ملاحظة هامّة للإمام الخميني على هذه النقطة قال فيها ((اصول وجذور كل العقائد والتي من أهمها وأعظمها عقيدتنا في أصل التوحيد ... هذا الاصل يعلـّمنا كيف ان الانسان لا يجب ان يسلـّم الاّ أمام الذات القدسية ، ولا يجب إطاعة أي انسان إلاّ ان تكون طاعته هي طاعة لله سبحانه. وعلى هذا الاساس لا يحق لأي انسان ان يجبر الناس الآخرين للتسليم له ؛ ونحن عن طريق ذلك الأصل الاعتقادي نتعلّم الحريّة ، ولا يحق لأيّ انسان مهما كان شأنه ان يحرم المجتمع أو الامّة من تلك الحرية ، مثلاً يضع لهم قوانين وضعيّة ، ويسيّر الناس حسب قوانينه وعلاقاته وسلوكه التي هي ناقصة جدّاً ، أو ينظّم حياة الناس حَسْبَ مُشتَهَياتِه )) (صحيفة النور ، 1378، ج4 ، ص166) .
والآيات القرآنية الشريفة تُشير الى نفي الأرباب من دون الله ، وهذا دليل على ان الكل قادرين على أن يشيـّدوا حكومتهم ويبنوا الحريات السياسية والاجتماعية على أساس الحقوق المتبادلة بين الناس :>قل يا أهل الكتاب تعالَوا إلى كلمةٍِ سَواء بينَنَا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله<(آل عمران :64) ،وفي آية أخرى >ءأربابٌ متفرّقون خيرٌ أم الله الواحد القهّار< (يوسف:39) . ورغم ما قيل من مباني وملازمات لاستنباط الحريات السياسيّة والحقوق الاجتماعيّة للمواطنين والموجودة في المتون الدينيّة ، فإن هناك بعض الدلالات في بَعّض الآيات وظاهر بعض النصوص أيضاً حيث صرَّحَت بأقسام الحريّة والحقوق الاجتماعيـّة.
مظاهر تحقق الحريّة السياسية
قسّم بعضهم الحرية الى قسمين : (الحرية في) و (الحرية من) ، فـ (الحرية في) بمعنى حق المساهمة والإشتراك ، و(الحرية من)بمعنى حق الحصانة من اعتداء الحكام. وسوف نتعرض هنا الى كلا القسمين حسب وجهة نظر القرآن والسنّة .
وسوف نتعرّض بالتحليل لبعض البنود للحريات السياسية من ناحيَةِ المساهمةِ وتأثيرها في الدولة :
1 . انتخاب الحكام :
في عَصْر الغَيْبَةِ ، انتخاب الحكام الواجدين للشرائط اللائقة لإدارة الدولة صار بعُهدة الأمّة . وهذا المطلب نستفيده من آيات خلافة الانسان في الأرض:فاطر 39 ، النمل 62، النور 55 > و ان الارض سوف يرثُها العباد الصالحون والمستضعفون< (القصص: 5) وآية: الشورى:38 تُثبت أن أهم تأثير على صعيد القدرة هو الاشتراك في الانتخابات و القيام بانتخاب المسؤولين الذين هم مورد رضا أكثر الناس، تعتبر اليوم من أهم التأثيرات على جميع الأصعدة .
إذا كانت مشروعية الحكومة الاسلامية في عصر الغيبة مشروعيّة ، إلهيّة ، شعبيّة ، وحضور الناس وابداء وجهة نظرهم وأثره في اختيار الحكومة واضح ، فان الدولة الاسلاميّة في الحقيقة اتـّخَذَت طريقاً مختلفاً أدّى بها الى الخضوع للحرية السياسية .
بعض الأحيان تتضيّق أرضيّة الانتخابات الواقعيّة بواسطة الترويج أو التضييق . ومن الواضح ان رأي الناس مؤثر في مشروعيّة بقاء الدولة حدوثاً وبقاءً ، وان ابداء وجهة نظر الافراد قبل ثلاثين عاماً من أجل تثبيت واجراء بعض القوانين لا ينافي ابداء وجهات النظر بحريّة للذين جاؤا من بعدهم ، ولا يعتبر تضييقاً للقانون .
يمكن قبول الاستفادة من هذه النقطة بلحاظ ظهور عناوين في فعليّة الوصف لصاحب هذا الرأي ، فمثلاً>المؤمنون بعضهم أولياء بعض < تدلّ على ولاية المؤمنين بعضهم على بعض في كل زمان . >وأمرهم شورى بينهم< تدل على التشاور في الأمر بين المؤمنين .
وبالنظر الى هذه النقطة فان الامام الخميني(ره) انتقد الرُّتب والدرجات المزيّفة لملك ايران ،قائلاً : ((اذا أعطت الأمة آراءها – حتى لوكانت جميع الآراء – بأن يكون الشخص الذي بعد هذا السلطان هو سلطان أيضاً ، بأي حق يُفعل هذا ؟ تكون الامة التي قبل خمسين عاماً تعيّن عاقبة الأمّة التي بعدها ؟ عاقبة ونهاية كل أمّة تكون باختيار تلك الأمة )) (صحيفة الإمام ، 1387 ، ج 6 ، ص 11).
2 . المساهمة في القرارات :
أحد الأصعدة الأخرى للحريّة السياسية للناس ، المساهمة في القرارات الحكوميّة . وكما قلنا في فصلٍ سابق ، انّ الحاكم الاسلامي سواء كان منصوب من قِبَل الله سبحانه وتعالى أو لم يكن ،يجب عليه ان يستشير الناس في اتّخاذ القرارات ، وعلى الناس إظهار رأيهم بحريّة يريدون بها خيرهم و صلاحهم . وتدلّ الآية الشريفة >فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم و لو كُنْتَ فظّـاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر <(آل عمران : 159) على حريّة إبداء وجهات النظر والمناقشة في الدين الاسلامي ، وانّ قلب الرسول 2مفتوح لاستقبال الآراء الأخرى (انظر :احمد جمال حماد ، 1408 ، ص 197) ، وكذلك آية >وأمرُهُم شورى بينهم < (الشورى 38) تدلّ على المطلوب، وتعبّر عن مساهمة ومشاركة الناس المباشرة أو غير المباشرة في الأمور التي ترتبط بهم والتي وافَقَ عليها الإسلام .
وفي هذا المورد وفي زمان النبي2 والإمام علي D والخلفاء القائمين مقامه كانوا يُبدون وجهات نظرهم وآرائهم ، وفي موارد متعددة كانوا يستشيرون الناس حول آرائهم، وان الرسول 2 والإمام عليD اتّبع آراء الناس في بعض الموارد؛ وإليك بعض تلك الموارد :
*قال حباب بن المنذر في واقعة بدر لرسول الله2 عندما حطّ الرسول 2 رِحال المُسلمين قُرب بئر بدر : يارسول الله هَلْ ان هذا المنزل الذي نَزَلناه اختارَهُ الله لك فلا يمكن ان نتقدّم أو نتأخّر عنه؟ قال رسول الله2:بل هو حيلة حربيّة فقال حبّاب : ان هذا المنزل ليس مناسباً . مُرِ الناس بالتحرّك حتى نصل الى الآبار الأقرب للعدو ثم نحطّ رحالنا هناك ، وبعدها نصنع حوضاً نملؤه بالماء ثم بعد ذلك نقوم بحربهم... فعَمِلَ الرسول2 بما قاله حباب (انظر السيوطي ، الدر المنثور ، ج2 ص90 ).
* أبدى كل من ابن عباس والمغيرة بن شعبة رأيهم لعلي D في إبقاء معاوية وعُمّال عثمان ، ولكن علي Dأجاب بن عباس قائلاً : عليك ابداء وجهة نظرك اليّ ، ولكنّي اذا اتّخذت رأياً آخر فعليك اتّباعه (ابن جرير الطبري ، 1408 ، ج2 ، ص704 ، لك أن تشير عليَّ وأرى ، فإذا عصيتُكَ فأطِعْني).
3 . الإشراف ومراقبة الحكام
إشراف الناس ، من الاصول التي لها جذور في القرآن والسنّة وبالخصوص في سيرة الإمام عليD هناك موارد متعدّدة لطلب اشراف الناس ، وهذا من القواعد الاساسية للحريّة السياسية للناس ، وقال أمير المؤمنين D (فلا تكفّوا عن مقالةٍ بحق ، أو مشورةٍ بعدل ، فاني لَستُ في نفسي بفـَوق أن اخطيء ، ولا آمن ذلك من فعلي الاّ ان يكفي الله مِنْ نفسي ما هو أملك به منّي) (نهج البلاغة :خطبة 216).
وكتب الإمام عليD كتاباً عندما نصب بن عباس عاملاً على البصرة : اسمعوا له واطيعوه ما دام مطيعاً لله ولرسوله ، فإذا أحدثَ حدثاً أو ابتدع بدعة أو انحرف عن جادة الحق ، لو فعل ذلك فاعلموا انني سوف أقوم بعزله (الشيخ المفيد، 1406 ، ص420) .
طلب الإمامD لإبداء وجهات النظر الناصحة أو (النقد البنـّاء ) ، والإشارة الى احتمال خطأ الحاكم ، والتصريح بعهد وزمان الحاكم ما دام مع الله ورسوله ؛ كلّها تحكي عن قبول الإمام إشراف الناس (الرعية) على الحاكم . فإذا كان الناس لا يُشرفون على الحاكم لم تكن هناك أرضيّة لرفع الأخطاء والمطبـّات التي يقع بها الحاكم ؛ ولا يظهر لزوم عزله اذا ما فعل تلك الاخطاء .
لقد ترسّخَت مسألة الإشراف والنظارة في أذهان الناس كثيراً ، حتى أن الخليفة الأول ابا بكر قال بصراحة حول هذا الحق العام ، فقد صرّح عندما جَلس للبيعة (ولـّيتُ عليكم ولستُ بأفضلكم ... اذا رأيتموني على الحق فاتّبعوني وإذا زللت فقوّموني ؛ فما دمتُ مطيعاً لله أطيعوني ، وإذا عصيت الله سبحانه فلا حق لي في رقبتكم في إطاعتي )(علي عبد الواحد الوافي ، 1398 ، ص 246) ، و الخليفة الثاني أيضاً صرّح في أحد خُطَبِه ؛ أيها الناس من رأى منكم انحرافاً فيَّ فَعَليهِ تَـقويمي ، فقامَ له أحد الناس قائلاً ، إذا رأيتُ فيك انحرافاً واعوجاجاً فسوف أقوّمك بسيفك ، وهنا قال عمر الحمد لله الذي جعل في أمّة عمر مَن يقوّم انحرافه بسيف العدل (علي عبد الواحد الوافي، 1398 ، ص 264).
ومن دون ان نحلّل ونُـنَـظّر في نوع خلافة الخلفاء الأول والثاني ، فانّنا قمنا بالنقل للأقوال التاريخيّة على جرأةِ الناس وإشرافهم ونظارتهم الكاملة على أوضاع الحكام.
4 . النصيحة
كلمةُ (النصيحة) بمعنى ارادة الخير ، وعرّف القرآن أنبياء الله أنّهم ناصحون ، فقد قال نوح لقومه >وأبلّغكم رسالات ربي وأنصح لكم <(الاعراف: 62) ، اما هود فيُعلن >أبلّغكم رسالات ربي وانا لكم ناصحٌ أمين<(الاعراف:68) . وقد استُعملت هذه الكلمة – النصيحة – كثيراً في السنّة المطهّرة علاوة على الإسمتفادة منها مِنْ قِبَلِ أئمة المسلمين ، و واضح ان النصيحة تأتي بعد الاشراف والمراقبة . وقد قال رسول الله 2 (ثلاثة لا تخون قلب المسلم ، العملُ الخالص لله ، نصيحة أئمة المسلمين ، والسير مع الجماعة)(محمد باقر المجلسي ، 1403 ، ج2 ، ص 148) ، وجاء في الجوامع الروائية نظير هذه الرواية (محمد الكليني ،1363، ج1 ،ص 603 و 404 / الشيخ الصدوق ، الخصال ، ص 149) .
نصيحة أئمة المسلمين على خلاف مايَـتَصَوّر البعض بأنها ليست طاعة ولا نصيحة ، لماذا؟ لأنّهما حقّان مستقلاّن جاءا في كلمات أمير المؤمنينD جنباً على جنب (نهج البلاغة ،خطبة 134 ).
وبالنتيجة، يجب على الناس بعد الإشراف والمراقبة ، أن يقبلوا بالآراء الناصحة و لا يحرمهم الحاكم من أداء ذلك الحق .
يكتب الميرزا النائيني في هذا الجانب ((الثبات والرسوخ أساس المراقبة والمحاسبة ، والمسئوليّة الكاملة تتبناها هيئة مسدّدة وردّاعة يحكمها العقل وعقلاء الدولة و مريدي الخير لها ... فإذا تحقّقت المسئوليـّة والمحاسبة الكاملة وحُفظت محدوديات ومسئوليات الأفراد ، ومُنع من تبدل الولاية الى الملكيّة ، فسوف يكون كل المتصدين الذين يُعتبرون قوّة إجرائيّة تحت نظر ومسئوليّة هيئة المبعوثين ،وهؤلاء أيضاً يكونون تحت نظر المراقبة لأفراد الشعب)) (النائيني ، 1378، ص13) .
وقد جاءت (النصيحة) في كلمات أمير المؤمنينD بعنوان حقُّ الحاكم على الناس (نهج البلاغة خطبة:34) .
ويُستفاد من كل تلك البيانات انه رغمَ تعيين عاقبة الناس وماسيؤول أمرهم من خلال المشاركة في الحكومة ، لكن من وجهة النظر الأخرى ان على الناس وظائف عليهم تأديتها، وهذه من مصاديق الجمع بين الحقوق والواجبات (للتوضيح أكثر راجع ، كاظم قاضي زاده ، 1377، ص243 – 280 ).
5 . الاعتراض. أو ( الامر بالمعروف والنهي عن المنكر )
تأتي مرحلة الإعتراض بعد مرحلة النصيحة والانتقاد. وغالباً مايكون الاعتراض مصاحباً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وربّما يُقال ان الفريضة المهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرهي نفس الاعتراض لأجل تصحيح السلوك . طبعاً لا نبحث هنا مسألة الإنكار بالقلب او المرحلة العمليّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهناك آيات عديدة في القرآن تدلّ على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. جاء في بعض الآيات ان كل الأمّة الاسلاميّة مدعوّة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر>كنتم خير أمة اُخرجَت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر<(آل عمران :110) .وفي آية أخرى >والمؤمنون والمؤمنات بعضُهُم أولياء بعضٍ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر < (التوبة :71) .
وجاء في بعض الآيات ترغيبٌ لمجموعة خاصّة كي تعمل بهذه الوظيفة المهمّة >ولتكن منكم أمّة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر..<(آل عمران :104).
واحتمال ان (من) في كلمة (منكم) بيانيّة ، المراد منها أن تكون هناك مجموعة خاصّة متهيّئة لإنجاز مهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والإحتمال الآخر الذي يـَتـَنـاغم مع ظهور الآية ، ان (من) تبعيضيّة .
الفخر الرازي يُشير الى احتمالٍ آخر يقول ((وهناك أحد الاحتمالات يقول ان وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُختصّة بالمفكرين ، بدليلَين :
أحدهما؛ ان الآية تبيّن وظائف الدعوة الى الخير ، الأمر بالمعروف ، النهي عن المنكر؛ ومن الواضح ان الدعوة الى الخير مشروط بالعلم بالخير والعلم بالمعروف والمنكر ...
والأخرى ؛ عندنا إجماع على ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي. يعني ان على البعض منكم ان يقوم بهذه الوظيفة ، وفي الحقيقة هو وجوب على البعض وليس على الكل (الفخر الرازي ، 1411، ج4 ،ص183) .
وقد صرّح العلامة الطباطبائي رغم كل ذلك ، بأن الإختلاف الذي قال به الفخر الرازي في (من) هل هي تبعيضيّة أم بيانيّة ، لا أساس له.
ومهمّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تختص بمجموعة ، وظيفتها فقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي الحقيقة فإن هناك وظيفة خاصّة الى جانب الوظيفة العامّة ، للواعين و المُطـّلعين وحتى بعض مؤسسات الدولة ايضاً معنيـّة في إقامة هذه الفريضة ؛ وقد استندَت بعض المؤسسات في الدولةالإسلامية في أعمالها على هذه الآية .
واعلم ان الآية الشريفة(مطلقة) واطلاقها يقتضي أن يكون هناك نوعان من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الناحية الإجتماعيّة .
أحدهما أمر ونهي الدولة للمجرمين ، والآخر هو الأمر والنهي من قِـبـَل الناس، وبالخصوص المجموعات التي وظّفَتها الدولة لأداء هذه المهمّة بالخصوص .
وبالتركيز على الروايات التي بيَّنـَت أثـَر تـَرْكِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يتوضّح الدور المهم للأمّة في الأمر والنهي للدولة ؛ لأنه بتَرْك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سوف يتسلّط مَن لا أهليّة له على أريكة الحكم ويتسلّم زمام الأمور (نهج البلاغ، رسالة47، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيُوَلّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يُستجاب لكم ).
ومن جانب آخر، جاء في رواية أخرى عن أمير المؤمنين D (وما أعمال البرّ كُلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلاّ كنَفْثـَةٍ في بحرٍ لجيٍّ .. وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وأفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند إمام جائر )(نهج البلاغة :الحكمة 374).
ونُقل عن الإمام الحسن D :ان السياسة هي رعاية حقوق الله والأحياء والأموات ... اما رعاية حقوق الأحياء فيجب أن ترفعوا أصواتكم بالاعتراض على وليّ الأمر اذا انحرف عن جادّة الصواب) (انظر :هاشم معروف الحسني ، 1406، ج1 ، ص 525).
وهناك مصاديق كثيرة ومتعدّدة نُقلت حول اعتراضات الناس على الحكام وحتى على رسول الله2 وأمير المؤمنينD .
على الرغم من ان الرسول2 وامير المؤمنين D هما معصومان وبعيدان عن المعاصي وذلك وفق المباني الكلاميّة للشيعة ، وليس الاعتراض وجهاً من وجوه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن ييقى أثَـر الإعتراض على الحكومات الاسلامية مسئلة طبيعيّة ، بحيث أن الناس جعلوا لهم حقّاً في التعبيرعن اعتراضهم بحريّة.
أحد الاعتراضات على النبي الأكرم 2 هو عند تنصيبه أسامة بن زيد قائداً للجيش، بحيث كَتَبَ ابن هشام : بلغ اعتراض الناس على الرسول في تأمّر أسامة بن زيد على الجيش ، أن جاء الرسول2 بنفسه وجلس على المنبر وخطب قائلاً (إذا اعترضتم على اسامة فكنتم قد اعترضتم على أبيه من قبل ، واعلموا انه وأباه لائقان للإمرة ) (ابن هشام ،1415 ،ج2 ، ص 300) .
مالك الأشتر وهو من الاصحاب الخُـلّص لأميرالمؤمنينD ، قال للأمير : ياعلي لقد نهيتك عن إرسال جرير الى الحرب محذّراً ومخبراً عن احتمال أن يخدعوه ، ولو أرسلتني لكان أفضل... قال جرير: لو كنتَ أنت لقتلوك ... فقال الأشتر : لو أطاعني أمير المؤمنين D في هذا الأمر لأمَرْتُ بسجنِكَ أنت وأمثالك وتبقى سجيناً الى ان تنصلح الأمور (الطبري ، 1408 ، ج3 ،ص71) .
وفي واقعة إجراء الحد على النجاشي (اليمانيه)غضب طارق بن عبد الله بن أمير المؤمنين وقال : لم نَرَ أن أهل المعصية وأهل الطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة عند وُلاة العدل ومعادن العدل متساوون في الجزاء (محمد رضا حكيمي.. ، والحياة ، 1367 ، ج2، ص477).
يتبيّن ممّا سبق ان الدولة الاسلامية دولة تُراعي الحقوق والحريات للرعيّة في التعبير قُبالة الدولة ، وهذه المراعات رسميّة من قِـبَل الدولة وهي الموافقة على مراحل إجراء الإنتخابات والمشاركة في اتخاذ القرارات ، والمساهمة والنصيحة والإعتراض على الدولة . وأكثر من ذلك ان المخالفة العمليّة والثورة على الدولة ، باطل في الإسلام ، حتى لو قامت الدولة بتحجيم الحقوق .
6. الانتفاضة والثورة
من الطبيعي ان لا يوجد هنالك دولة تعطي تصريحاً في القيام والثورة ضدّها . بعبارة أخرى ان الدول السالفة تعتقد بحقّانيتها ما دامت موجودة ، والدول الحديثة أيضاً أعَدّت العدّة للإصلاحات الى حد تغيير المسؤولين على أساس القوانين وبشكل استفتاء وليس عن طريق انقلاب وثورة .
الإسلام عقيدةٌ تنظر الى الحكومات على انها أوسع من الدولة ؛ وفي الشرائط التي تكون جميع الطرق مسدودة إلاّ من اسقاط الدولة ، يُشير الإسلام الى هذه الوظيفة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للحكومات ؛اي ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مفهومه الواسع يشمل هذه المرحلة أيضاً .
وعلى هذا الأساس ذَهَبَ أميرالمؤمنينD للحرب مع معاوية ، وقال يوم التقى مع جيش الشام (ايّها المؤمنون ! كل من رأى ظلماً يُعمل به ومُنكراً يُدعى إليه ، فإذا أنكره بقلبه فسوف يسلم من سذلك الظلم ، وإذا أنكره بلسانه فسوف ينال الأجر والثواب ، وهو أفضل من الأول ومن قام بالسيف ضدّه لأجل إعلاء كلمة الله وجعل كلمة الظالمين هي السفلى ، فهو الذي وصل الى طريق الهداية ، ووقَفَ على طريق الحق ، وأنارَ قلبَهُ بنور اليقين) (الحر العاملي ، 1403 ، ج11 ، ص405، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدىوقام على الطريق ونور في قلبه اليقين).
وقد كان أحد أسباب نهضة ا لإمام الحسين D ضد يزيد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد أشارDفي عدّة مناسبات الى هذا المورد وهذا الهدف ، وحفّز الناس على الثورة لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال في أحد كلماته(ألا ترون ان الحق لا يُعمل به وان الباطل لا يُنتهى عنه ليرغب المؤمن لقاء الله محقّاً فاني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَماً) (الحراني ، 1363 ، ص 245).
كما أشار القرآن في آيات متعدّدة الى مواجهة الظلم ، وهي كثيرة سوف نشير الى بعضها:>وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بَغَت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغِي حتىتفيء الى أمر الله<(الحجرات:9).
هذه الآية أشارت إلى مواجهة ومحاربة الطائفة الظالمة من الطائفتين المُسلمَتَـين حتى تَـنْـصَلح .
يجب إدامة المواجهة كي يرتفع الظلم حتى لو كان ذلك الظالم مِنَ المؤمنين ، وحتى لو استدعى رفع الظلم تحطيمُ الدولة الظالمة.
نطاق الحريةالسياسية
من المسلّم ان الحرية من دون قيد وشرط أو نطاق معيّن يحدّدها سوف يكون مردودها سليباً ، حتى أن المفكرين في المباحث السياسية أكّدوا بنظرتهم الثاقبة على أن الحرية من دون قيد أو شرط سوف تتحول الى تمرّد وعصيان ، وتفقد أصالتها (افلاطون، ص 86) .ورفع القيود عنها هو نفسه ضياعها وفسادها (ويل ديورانت، ص97) ويؤدي الى بروز الهرج والمرج الاجتماعي ، وهذه الحرية سوف تؤدي الى سحق الفقراء مِن قِبَل الأغنياء(ايزا برلين،239) .
لذا فأقلّ ما يمكن طرحه هو جعل الحرية في إطار القانون (جان لوك، ص271).
طبعاً عند الأخذ بنظر الاعتبار الحُجَج التي يتحجّج بها الحكام في سدّ باب الحرية فان بعض المتحررين اذعنوا بالضرر الحاصل من الحرية التي هي من دون قيد وشرط.
علماً ان كل شرط يوضع للحرية ، يتّخذه الحكام ذريعة من أجل نفي الحرية كاملةً، وان المعتقدين بالحرية من دون قيد وشرط ، تراهم يعترفون على الصعيد العملي بأن الحرية مقيّدة بحرية الآخرين (ميل، جان استوارت ،ص49).
في الاسلام، الحرية تكون مقيّدة بحفظ حقوق الآخرين وكذلك الحقوق الاجتماعية، فقد جاء في القرآن الكريم تعبير (ولا تعتدوا) كثيراً ، وهناك أيضاً عدّة موارد في القرآن الكريم تنهى عن التجاوز على الآخرين مثل(البقرة ،190، 194/ المائدة 2 ،8).
وكذلك جاء في السنّة النبوية المطهرة(المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يخذله ) (علي الهندي، 1409، ش 745) ، فان دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا (ويقصد شهر ذي الحجة الحرام ) (صحيح البخاري ، 1419، ج1ن، ص 37) و فضلاً عن ذلك كله فان رعاية الحقوق العامّة يعتبر أيضاً من قيود الحريّة ، والحريّة التي تنجرّ الى الفساد (في مقابل الاصلاح) قد نهى عنها القرآن الكريم >ولا تتّبع سبيل المفسدين< (الأعراف :142) وهذا البحث يحتاج الى التوسّع أكثر ، سوف نقدّمه في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
فهرس المصادر
1. القرآن الكريم.
2. نهج البلاغه.
3. ابن هشام، ابومحمد عبدالملك، السيرة النبوية، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1415 ق.
4. ابوشبانه، ياسر، النظام الدولي الجديد بين الواقع الحالي و التصور الاسلامي، بيروت، دارالفكر، 1985م.
5. البخاری، محمدبن اسماعيل، صحيح البخاری، الطبعة الاولي، بيروت، دارالقلم، 1407ق.
6. دائرة المعارف بزرگ اسلامي، جمعي از نويسندگان، تحت اشراف: كاظم الموسوی البجنوردی، تهران، مركز دائره المعارف بزرگ اسلامي، 1372.
7. الحراني، حسين بن شعبه، تحف العقول، تصحيح و تعليق علي اكبر غفاری، الطبعة الثانية، قم، منشورات جامعة المدرسين، 1363.
8. الحرالعاملي، محمد، وسائل الشيعة، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1403 ق.
9. الحكيمي، محمدرضا و محمدالحكيمي و علي الحكيمي، الحيوة، الطبعة الاولي، تهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1367.
10. الحلبي، علي اصغر، تاريخ نهضتهای ديني، سياسي معاصر، الطبعة الاولي، تهران، بيهقي، 1371.
11. الحويزي، عبدعلي بن جمعه، تفسير نورالثقلين، الطبعة الرابعة، قم، اسماعيليان، 1373.
12. خسروشاهي، سيدهادی (تحت اشراف)، نامهها و اسناد سياسي سيدجمالالدين اسد آبادی، قم، دارالتبليغ، 1353.
13. الراغب الاصفهاني، محمد، معجم مفردات الفاظ القرآن، قم، اسماعيليان.
14. دائرة المعارف تشيع، تحت اشراف: احمد صدر حاج سيدجوادی، بهاءالدين خرمشاهي، كامران فاني، الطبعة الاولي، تهران، بنياد اسلامي طاهر، 1366.
15. السيوطي، جلالالدين، الجامع الصغير، تحقيق: عبدالله محمد درويش، دمشق، 1417ق.
16. _________، الدر المنثور في التفسير المأثور، دارالفكر، بيروت، 1414ق.
17. صحيفه امام، مجموعه رهنمودهای امام خميني، الطبعة الاولي، تهران، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني، 1378.
18. الطباطبايي، العلامه السيد محمدحسين، الميزان في التفسير القرآن، الطبعة الاربعة عشر، تهران، دارالكتب الاسلامية، 1362.
19. الطبری، محمدبن جرير، تاريخ طبری، الطبعة الثانية، بيروت، دارالكتب العلمية، 1408 ق.
20. الفخر الرازی، التفسير الكبير، الطبعة الثالثة، قم، دفتر تبليغات اسلامي، 1411ق.
21. قاسمزاده، شعبان، حقوق اساسي ايران، تهران، انتشارات دانشگاه تهران، 1334.
22. قاضي، ابوالفضل، حقوق اساسي و نهادهای سياسي، الطبعة الاولي، تهران، انتشارات دانشگاه تهران.
23.قاضيزاده، كاظم، انديشههای فقهي _ سياسي امام خميني(ره)، الطبعة الاولي، تهران، مركز تحقيقات استراتژیک، 1377.
24. الكليني، محمد بن يعقوب، الاصول من الكافي، الطبعة الخامسة، تهران، دارالكتب الاسلامية، 1363.
25.المجلسي، العلامة محمدباقر، بحارالانوار، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1403 ق (1983م).
26. مدني، سيدجلال الدين، حقوق اساسي در جمهوری اسلامي ايران، الطبعة الاولي، تهران، سروش، 1369.
27. مطهري، مرتضی، مجموعه آثار شهيد مطهري(1)، الطبعة الاولي، تهران، صدرا، 1375.
28. المعروف الحسني، هاشم، سيرة الائمة الاثني عشر، بيروت، دارالتعارف للمطبوعات، 1406 ق (1986م).
29. المفيد، شيخ محمد، مجموعه مؤلفات شيخ مفيد، الطبعة الثانية، بيروت، دارالمفيد، 1414ق.
30. النائيني، ميرزا محمدحسين، تنبيه الامة و تنزيه الملة، الطبعة التاسعة، تهران، شركت سهامي انتشار، 1378.
31. الوافي، علي عبدالواحد، حقوق الانسان في الاسلام، الطبعة الخامسة، قاهره، دارالنهضة للطباعة و النشر، 1398 ق.
32. المتقي الهندی، علاءالدين علي، كنزالعمال في سنن الاقوال و الافعال، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1409ق.
[*] عضو الهيئة العلمية في جامعة (تربيت مدرس) تعليم المدرسين.
مفتاح العبارات: القرآن ، السنّة ، الحقوق السياسية ، الحرية السياسية ، النصيحة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .